فصل: إذا كان في المحاربين صبي، أو مجنون، أو أب المقطوع عليه، فهل يسقط الحد عن كلَّهم‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


ويشهد لهذا القول، عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه، وأما قتل المحارب بغير الكفؤ، فهو قول أكثر العلماء، وعن الشافعي، وأحمد فيه روايتان، والتحقيق عدم اشتراط المكافأة في قتل الحرابة‏.‏ لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل، وسلب المال‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين، وهما المحاربة، والسعي في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفًا من وضيع، ولا رفيعًا من دنيء، اهـ من القرطبي‏.‏

قال مقيده، عفا الله عنه‏:‏ ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة، إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له، وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل، فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص، بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة‏.‏ * * *

المسألة الثالثة‏:‏ إذا حمل المحاربون على قافلة مثلًا، فقتل بعضهم بعض القافلة، وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد، فهل يقتل الجميع، أو لا يقتل إلا من باشر القتل، فيه خلاف، والتحقيق قتل الجميع، لأن المحاربة مبنية على حُصول المنعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكّن المباشر من فعله، إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته، ولو قتل بعضهم، وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم، وصلبهم كلهم‏.‏ لأنهم شركاء في كل ذلك، وخالف في هذا الشافعي رحمه الله فقال‏:‏ لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية، ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود، وإنما عليه التعزير‏.‏ * * *

المسألة الرابعة‏:‏

إذا كان في المحاربين صبي، أو مجنون، أو أب المقطوع عليه، فهل يسقط الحد عن كلَّهم‏؟‏

ويصير القتل للأولياء إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا نظرًا إلى أن حكم الجميع واحد، فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع، وهو قول أبي حنيفة، أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي، أو مجنون، أو أب، وهو قول أكثر العلماء، وهو الظاهر‏.‏ * * *

المسألة الخامسة‏:‏ إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم، فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئًا من إقامة الحدود المذكورة عليهم، وأما إن جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل‏.‏ لأنهم تسقط عنهم حدود الله، وتبقى عليهم حقوق الآدميين، فيقتص منهم في الأنفس والجراح، ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال، ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء، ولصاحب المال إسقاطه عنهم‏.‏

وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم، كما هو صريح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ، وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال، وتضمينهم ما استهلكوا‏.‏ لأن ذلك غصب، فلا يجوز لهم تملكه، وقال قوم من الصحابة والتابعين‏:‏ لا يطلب المحارب الذي جاء تائبًا قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال، وأما ما استهلكه، فلا يطلب به، وذكر الطبري هذا عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بحارثة بن بدر الغداني، فإنه كان محاربًا، ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتابًا منشورًا، ونحوه ذكره ابن جرير‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد، ولم يوجد له مال، هل يتبع دينًا بما أخذ، أو يسقط عنه، كما يسقط عن السارق‏؟‏ يعني عند مالك، والمسلم، والذمي في ذلك سواء ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَـاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ اختلف فيه العلماء، فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ معناها أن من قتل نبيًا، أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياه، بأن شد عضده ونصره، فكأنما أحيا الناس جميعًا، نقله القرطبي، وابن جرير وغيرهما، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن‏.‏

وعن ابن عباس أيضًا أنه قال‏:‏ المعنى، أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها، فهو كمن قتل الناس جميعًا‏.‏ لأن انتهاك حرمة الأنفس، سواء في الحرمة والإثم، ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفًا من الله، فهو كمن أحْيا الناس جميعًا، لاستواء الأنفس في ذلك‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏، أي عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو، ومن أحياها واستنقذها من هلكه، فكأنما أحيا الناس جميعًا عند المستنقذ، وقال مجاهد‏:‏ المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا جعل الله‏:‏ جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا، ولو قتل الناس جميعًا لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه‏.‏

واختار هذا القول ابن جرير، وقال ابن زيد‏:‏ المعنى أن من قتل نفسًا يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعًا، قال‏:‏ ومن أحياها، أي عفا عمن وجب له قتله، وقال الحسن أيضًا‏:‏ هو العفو بعد المقدرة، وقيل‏:‏ المعنى أن من قتل نفسًا فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها وجب على الكّل شكره، وقيل‏:‏ كان هذا مختصًا ببني إسرائيل، وقيل‏:‏ المعنى أن من استحل قتل واحد، فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع، ومن حرم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعًا، ذكر هذه الأقوال القرطبي، وابن كثير، وابن جرير وغيرهم، واستظهر ابن كثير هذا القول الأخير، وعزاه لسعيد بن جبير‏.‏

وقال البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْيَـاهَا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعًا‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ إحياؤه عبارة عن الترك، والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع، إنما هو لله تعالى، وهذا الإحياء، كقول نمروذ لعنه الله‏:‏ ‏{‏أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ‏}‏ ، فسمى الترك إحياء‏.‏

وكذلك قال ابن جرير، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاٌّرْضِ فَسَادًا‏}‏، اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها، فقيل‏:‏ نزلت في قوم من المشركين، وقيل‏:‏ نزلت في قوم من أهل الكتاب، وقيل‏:‏ نزلت في الحرورية‏.‏

وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح، وغيرها، أنها نزلت في قوم ‏"‏عرينة‏"‏، و ‏"‏عكل‏"‏، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا وسمنوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا اللقاح، فبلغه صلى الله عليه وسلم خبرهم، فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُملت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون، فلا يسقون حتى ماتوا‏.‏

وعلى هذا القول، فهي نازلة في قوم سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطَّاع الطريق من المسلمين، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ، فإنها ليست في الكافرين قطعًا‏.‏ لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه، كما تقبل قبلها إجماعًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ، وليست في المرتدين، لأن المرتد يقتل بردته وكفره، ولا يقطع لقوله صلى الله عليه وسلم عاطفًا على ما يوجب القتل‏:‏ ‏"‏والتارك لدينه المفارق للجماعة‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏من بدل دينه فاقتلوه‏"‏، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين، فإن قيل‏:‏ وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله‏؟‏ فالجواب‏:‏ نعم‏.‏

والدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏.‏

تنبيه

استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به‏.‏

واختلف في الجواب فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وقال محمد بن سيرين‏:‏ كان ذلك قبل نزول الحدود، وقال أبو الزناد‏:‏ إن هذه الآية معاتبة له صلى الله عليه وسلم على ما فعل بهم، وبعد العتاب على ذلك لم يعد، قاله أبو داود‏.‏

والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قِصاصًا، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصًا، لأنهم سملوا أعين رعاة اللِّقاح، وعقده البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله‏:‏ وبعدها أنتهبها الأُلى انتهوا لغاية الجهد وطيبة اجتووا

فخرجوا فشربوا ألبانها ونبذوا إذ سمنوا أمانها

فاقتص منهم النبي أن مثلوا بعبده ومقلتيه سملوا

واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة‏:‏ بعبده، لأن الثابت أنهم مثَّلوا بالرعاء، والعلم عند الله تعالى‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏.‏

اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة‏.‏

وأصل الوسيلة‏:‏ الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء، لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جدًا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ، وكقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏قل أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ‏}‏ ، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالوسيلة الحاجة، ولما سأله نافع الأزرق هل تعرف العرب ذلك‏؟‏ أنشد له بيت عنترة‏:‏ إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضَّبي

قال‏:‏ يعني لهم إليك حاجة، وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس، فالمعنى‏:‏ ‏{‏وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ‏}‏، واطلبوا حاجتكم من الله، لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها، ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ‏}‏ ، وفي الحديث ‏"‏إذا سألت فسأل الله‏"‏‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا، لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته‏.‏

وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهَّال المدعين للتصوُّف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رِضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل، ‏{‏لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏‏.‏

والظاهر أن الوسيلة في بيت عنترة معناها التقرب أيضًا إلى المحبوب، لأنه وسيلة لنيل المقصود منه، ولذا أنشد بيت عنترة المذكور ابن جرير، والقرطبي وغيرهما لهذا المعنى الذي ذكرنا وجمع الوسيلة‏:‏ الوسائل، ومنه قول الشاعر‏:‏ إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل

وهذا الذي سرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضًا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏، وليس المراد بالوسيلة أيضًا المنزلة التي في الجنة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل له الله أن يعطيه إياها، نرجو الله أن يعطيه إياها، لأنها لا تنبغي إلا لعبد، وهو يرجو أن يكون هو‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏‏.‏

في هذا الآية الكريمة إجمال، لأن المشار إليه بقوله ‏{‏هذا‏}‏، ومفسر الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فخذوه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَّمْ تُؤْتَوْهُ‏}‏ لم يصرح به في الآية ولكن الله أشار له هنا، وذكره في موضع آخر‏.‏

واعلم أولًا أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة، فتعمدوا تحريف كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصَن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله ‏"‏التوراة‏"‏ الرجم أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه والإركاب على حمار، فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شأن حدهما، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ذلك واجعلوه حجة بينكم وبين الله تعالى ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله ‏{‏هذا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فخذوه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن لَّمْ تُؤْتَوْهُ‏}‏ هو الحكم المحرف الذي هو الجلد والتحميم كما بينا، وأشار إلى ذلك هنا بقوله‏:‏ ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏ يعني المحرف والمبدل الذي هو الجلد والتحميم ‏{‏فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ‏}‏بأن حكم بالحق الذي هو الرجم ‏{‏فاحذروا‏}‏ أن تقبلوه‏.‏

وذكر تعالى هذا أيضًا في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ، يعني التوراة ليحكم بينهم يعني في شأن الزانيين المذكورين ‏{‏ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن، وقوله هنا‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏ ، هو معنى قوله عنهم‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء‏}‏‏.‏

أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني استودعوه، وطلب منهم حِفظه، ولم يبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه، أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه‏؟‏ ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا الأمر، ولم يحفظوا ما استحفظوه، بل حرفوه وبدلوه عمدًا كقوله‏:‏ ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ‏}‏ ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ من بعد مَّوَاضِعِهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ‏}‏، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

تنبيه

إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرآن، فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت كما بيناه آنفًا، والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل، لو حرف منه أحد حرفًا واحدًا فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفًا أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلًا عن كبارهم‏.‏

فالجواب أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمدًا والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ، إلى غير ذلك من الآيات و ‏"‏الباء‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا اسْتُحْفِظُواْ‏}‏ متعلقة بالرهبان والأحبار، لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة بسبب ما استحفظوا من كتاب الله‏.‏

وقيل‏:‏ متعلقة يـ ‏{‏ثُمَّ يُحْكِمُ‏}‏ والمعنى متقارب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة‏:‏ هل هي في المسلمين، أو في الكفّار، فروي عن الشعبي أنها في المسلمين، وروي عنه أنها في اليهود، وروي عن طاوس أيضًا أنها في المسلمين، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وروِي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال‏:‏ ليس الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود، لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ‏}‏، وأنهم يقولون ‏{‏إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ‏}‏يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله ‏{‏فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ‏}‏ أي المحرف، بل أوتيتم حكم الله الحق ‏{‏فَاحْذَرُواْ‏}‏ فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق‏.‏

وقد قال تعالى بعدها ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ‏}‏ ، فدل على أن الكلام فيهم، وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب، كما دل عليه ما ذكر البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري وغيرهم، وزاد الحسن، وهي علينا واجبة نقله عنهم ابن كثير، ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي‏.‏

وقال القرطبي في تفسيره‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ـ و ‏{‏الظالمون‏}‏ ـ و ‏{‏الفاسقون‏}‏ نزلت كلها في الكفّار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم وعلى هذا المعظم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار، أي ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏ ردًا للقرآن وجحدًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

فالآية عامةً على هذا قال ابن مسعود، والحسن‏:‏ هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفّار، أي معتقدًا ذلك ومستحلًا له‏.‏

فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه مرتكب محرمٍ فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له‏.‏

وقال ابن عباس في رواية‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏ فقد فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفّار، وقيل‏:‏ أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد، ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول إلا أن الشعبي قال‏:‏ هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس قال‏:‏ ويدل على ذلك ثلاثة أشياء‏.‏ منهما أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى ‏{‏للذين هادوا‏}‏ فعاد الضمير عليهم‏.‏

ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك‏.‏ ألا ترى أن بعده ‏{‏وكتبنا عليهم‏}‏ ، فهذا الضمير لليهود بإجماع‏.‏ وأيضًا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص، فإن قال قائل ‏"‏من‏"‏ إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها قيل له‏:‏ ‏"‏من‏"‏ هنا بمعنى الذي، مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير‏:‏ واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا‏.‏

ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات، أهي في بني إسرائيل، فقال‏:‏ نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل، وقيل‏:‏ ‏{‏الكافرون‏}‏ للمسلمين، و ‏{‏الظالمون‏}‏ لليهود و ‏{‏الفاسقون‏}‏ للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال‏:‏ لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة والشعبي أيضًا‏.‏ قال طاوس وغيره‏:‏ ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر‏.‏

وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر‏.‏ وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين‏.‏ قال القشيري‏:‏ ومذهب الخوارج أن من ارتشى، وحكم بحكم غير الله فهو كافر، وعزا هذا إلى الحسن والسدي، وقال الحسن أيضًا‏:‏ أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء‏:‏ ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنًا قليلًا، انتهى كلام القرطبي‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية ‏{‏هم الكافرون‏}‏ نازلة في المسلمين، لأنه تعالى قال قبلها مخاطبًا لمسلمي‏.‏ هذه الأُمة ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ ، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلًا له، أو قاصدًا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها‏.‏

أما من حكم بغير حكم الله، وهو عالم أنه مرتكب ذنبًا فاعل قبيحًا، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين، وسياق القرآن ظاهر أيضًا في أن آية ‏{‏فأولئك هم الظالمون‏}‏ في اليهود لأنه قال قبلها‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏.‏

فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضًا في أن آية ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏‏.‏

واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مرادًا به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏ معارضةً للرُّسل وإبطالًا لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏معتقدًا أنه مرتكب حرامًا فاعل قبيحًا فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏‏.‏

قد قدمنا احتجاج أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على قتل المسلم بالذمي، ونفس الآية فيها إشارة إلى أن الكافر لا يدخل في عموم الآية، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏‏.‏

ومن المعلوم أن الكافر ليس من المتصدقين الذين تكون صدقتهم كفارة لهم، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، نبه على هذا إسماعيل القاضي في ‏(‏أحكام القرآن‏)‏ كما نقله ابن حجر في ‏(‏فتح الباري‏)‏، وما ذكره إسماعيل القاضي من أن الآية تدل أيضًا على عدم دخول العبد، بناء على أنه لا يصح له التصدق بجرحه، لأن الحق لسيده غير مسلم، لأن من العلماء من يقول‏:‏ إن الأمور المتعلقة ببدن العبد، كالقصاص له العفو فيها دون سيده، وعليه فلا مانع من تصدقه بجرحه، وعلى قول من قال‏:‏ إن معنى ‏{‏فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏ ، أن التصدق بالجناية كفارة للجاني، لا للمجني عليه، فلا مانع أيضًا من الاستدلال المذكور بالآية، لأن الله لا يذكر عن الكافر أنه متصدق، لأن الكافر لا صدقة له لكفره، وما هو باطل لا فائدة فيه لا يذكره الله تعالى، في معرض التقرير والإثبات، مع أن هذا القول ضعيف في معنى الآية‏.‏

وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم على أن معناها فهو كفارة للمتصدق، وهو أظهر‏.‏ لأن الضمير فيه عائد إلى مذكور، وذلك في المؤمن قطعًا دون الكافر، فالاستدلال بالآية ظاهر جدًا‏.‏

تنبيه

احتج بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يقتل اثنان بواحد، لأنهما لو قتلا به لخرج عن قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ لكونهما نفسين بنفس واحدة‏.‏

وممن قال بهذا متمسكًا بهذا الدليل ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى، عن ابن عباس، وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية‏.‏ لأن كل واحد منهم مكافىء له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد، كما نقله عمن ذكرنا ابن قدامة في ‏(‏المغني‏)‏‏.‏

وقالوا مقتضى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحُرُّ بِالْحُرِّ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفسٍ واحدة، قالوا‏:‏ ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع القصاص، بدليل عدم قتل الحر بالعبد، والتفاوت في العدد أولى‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد، وعدم قتل الجماعة بالواحد رواية عن الإمام أحمد‏.‏

والرواية المشهورة عن الإمام أحمد‏.‏ ومذهب الأئمة الثلاثة أنه يقتل الجماعة بالواحد، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قتل سبعة بواحد، وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا، وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، فإنه توقف عن قتال الحرورية حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب، كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال‏:‏ الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب‏.‏ فقالوا‏:‏ كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه‏:‏ دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه، نقله القرطبي عن الدارقطني في ‏(‏سننه‏)‏‏.‏

ويزيد قتل الجماعة بالواحد، ما رواه الترمذي عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لو أن أهل السماء، وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار‏"‏‏.‏ قال فيه الترمذي‏:‏ حديث غريب نقله عنه القرطبي‏.‏

وروى البيهقي في ‏(‏السنن الكبرى‏)‏ نحوه عن ابن عباس مرفوعًا، وزاد ‏"‏إلا أن يشاء‏"‏، وروى البيهقي أيضًا عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله‏"‏‏.‏

وروي عن المغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في ‏(‏المغني‏)‏ أن الجماعة تقتل بالواحد، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما أيضًا، ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة، فصار إجماعًا سكوتيًا، واعترضه بعضهم بأن ابن الزبير ثبت عنه عدم قتل الجماعة بالواحد، كما قاله ابن المنذر‏.‏

وإذن فالخلاف واقع بين الصحابة، والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا، لم يجز العمل بأحد القولين إلا بترجيح‏.‏

قال مقيده، عفا الله عنه‏:‏ ويترجح مذهب الجمهور الذي هو قتل الجماعة بالواحد، بأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ، يعني أن من علم أنه يقتل إذا قتل يكون ذلك رادعًا له وزاجرًا عن القتل، ولو كان الاثنان لا يقتص منهما للواحد، لكان كل من أحب أن يقتل مسلمًا، أخذ واحدًا من أعوانه فقتله معه، فلم يكن هناك رادع عن القتل وبذلك تضيع حكمة القصاص من أصلها، مع أن المتمالئين على القتل يصدق على كل واحد منهم أنه قاتل فيقتل، ويدل له أن الجماعة لو قذفوا واحدًا لوجب حد القذف على جميعهم، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ‏}‏‏.‏

لم يبين هنا شيئًا مما أنزل في الإنجيل الذي أمر أهل الإنجيل بالحكم به، وبين في مواضع أخر أن من ذلك البشارة بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه‏.‏ والإيمان به كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ‏}‏ ، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

لطيفة‏:‏ لها مناسبة بهذه الآية الكريمة‏:‏ ذكر بعض العلماء أن نصرانيًا قال لعالم من علماء المسلمين‏:‏ ناظرني في الإسلام والمسيحية أيهما أفضل‏؟‏ فقال العالم للنصراني‏:‏ هلم إلى المناظرة في ذلك، فقال النصراني‏:‏ المتفق عليه أحق بالاتباع أم المختلف فيه‏؟‏

فقال العالم‏:‏ المتفق عليه أحق بالاتباع من المختلف فيه‏.‏ فقال النصراني‏:‏ إذن يلزمكم اتباع عيسى معنا، وترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لأننا نحن وأنتم نتفق على نبوة عيسى، ونخالفكم في نبوة محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال المسلم‏:‏ أنتم الذين تمتنعون من اتباع المتفق عليه، لأن المتفق عليه الذي هو عيسى قال لكم‏:‏ ‏{‏وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ، فلو كنتم متبعين عيسى حقًا لاتبعتم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فظهر أنكم أنتم الذين لم تتبعوا المتفق عليه ولا غيره، فانقطع النصراني‏.‏

ولا شك أن النصارى لو كانوا متبعين عيسى، لاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

قد قدمنا أن هذه الآية في النصارى، والتي قبلها في اليهود، والتي قبل تلك في المسلمين، كما يقتضيه ظاهر القرآن‏.‏

وقد قدمنا أن الكفر، والظلم، والفسق كلها يطلق على المعصية بما دون الكفر، وعلى الكفر المخْرج من الملة نفسه‏.‏ فمن الكفر بمعنى المعصية‏.‏ قوله صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة عن سبب كون النساء أكثر أهل النار، ‏"‏إن ذلك واقع بسبب كفرهن‏"‏ ثم فسره بأنهن يكفرن العشير، ومن الكفر بمعنى المخرج عن الملة، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏.‏ ومن الظلم بمعنى الكفر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ، ومنه بمعنى المعصية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ‏}‏ ، ومن الفسق بمعنى الكفر قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏، ومنه بمعنى المعصية قوله في الذين قذفوا عائشة، رضي الله عنها‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏.‏

ومعلوم أن القذف ليس بمخرج عن الملة، ويدل له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ‏}‏ ، ومن الفِسق بمعنى المعصية أيضًا، قوله في الوليد بن عقبة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏.‏

وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فمن كان امتناعه من الحكم بما أنزل الله، لقصد معارضته ورده، والامتناع من التزامه، فهو كافر ظالم فاسق كلها بمعناها المخرج من الملة، ومن كان امتناعه من الحكم لهوى، وهو يعتقد قبح فعله، فكفره وظلمه وفسقه غير المخرج من الملة، إلا إذا كان ما امتنع من الحكم به شرطًا في صحة إيمانه، كالامتناع من اعتقاد ما لا بد من اعتقاده، هذا هو الظاهر في الآيات المذكورة، كما قدمنا والعلم عند الله تعالى‏.‏

‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في مواضع أخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة ليست خالصة، لأنها لا تستند على أساس صحيح، هو دين الإسلام، فبين أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة، بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ ، وبين مثل ذلك في اليهود أيضًا، حيث قال فيهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ‏}‏، والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم، كما هو صريح السياق، خلافًا لمن قال‏:‏ إنها بين اليهود، والنصارى‏.‏

وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللًا له بعدم عقولهم في قوله‏:‏ ‏{‏تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تنبيه

أخذ بعض العلماء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ أن اليهودي، والنصراني، يتوارثان، ورده بعض العلماء، بأن المراد بالآية، ولاية اليهود لخصوص اليهود، والنصارى لخصوص النصارى، وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود، والنصارى، مِن المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم‏.‏ وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمنًا ما تولاهم، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَااتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏.‏ ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبينًا سبب التنفير منه‏.‏ وهو قوله‏:‏

{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ ‏.‏

وبين في موضع آخر‏:‏ أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف، وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏ فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة‏.‏ ومن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختيارا

ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، يعتذرون عن موالاة الكفّار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم، كما قال الشاعر‏:‏ إذا ما الدهر جر على أناس كلا كله أناخ بآخرينا

يعنون إما بقحط فلا يميروننا، ولا يتفضلوا علينا، وإما بظفر الكفار بالمسلمين، فلا يدوم الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، زعمًا منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر‏.‏ يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم، فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه، وأن المسلمين يتعجّبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم، إنهم لمع المسلمين‏:‏ وبين في هذه الآية‏:‏ أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة اليهود، أنها لا تدور إلا على اليهود، والكفار، ولا تدور على المسلمين، بقوله‏:‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ‏}‏، وعسى من الله نافذة، لأِنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي‏.‏

والفتح المذكور قيل‏:‏ هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل‏:‏ الفتح الحكم، كقوله ‏{‏رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل‏:‏ هو فتح مكة، وهو راجع إلى الأول‏.‏

وبيَّن تعالى في موضع آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين، أنهم منهم، إنما هو الفرق أي الخوف، وأنهم لو وجدوا محلًا يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه، لشدة بغضهم للمسلمين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏ ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين، ونظيرها قوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً‏}‏ ‏.‏

وبين تعالى في موضع آخر، أنهم يحلفون تلك الأَيمان ليرضى عنهم المؤمنون، وأنهم إن رضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عنهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ‏}‏ ‏.‏

وبين في موضع آخر‏:‏ أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين، وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏.‏

وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم، بسبب أن لهم عذرًا صحيحًا، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم، لا لأن لهم عذرًا صحيحًا، بل مع الإعلام بأنهم رجس، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق، وهو قوله‏:‏ ‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏.‏

وبيَّن في موضع آخر‏.‏ أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏.‏

وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعًا إلى السبب الأول، الذي هو الخوف‏.‏ لأن خوفهم مِن المؤمنين هو سبب رغبتهم في إرضائهم، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم، ولذا حلفوا لهم، ليرضوهم، وليعرضوا عنهم، خوفًا من أذاهم، كما هو ظاهر‏.‏

تنبيه

قوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ‏}‏فيه ثلاث قراءات سبعيات‏.‏

الأولى‏:‏ ‏{‏يِقُولُ‏}‏‏:‏ بلا واو مع الرفع، وبها قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر‏.‏

الثانية‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ‏}‏ بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضًا، وبها قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏.‏

الثالثة‏:‏ بإثبات الواو، ونصب ‏{‏يِقُولُ‏}‏ عطفًا على ‏{‏أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏}‏ وبها قرأ أبو عمرو‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏